فصل: قال السايس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[الآية الرابعة]:

{واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا (4)}.
{واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ}: من الكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه.
{إِنِ ارْتبْتُمْ}: أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن.
{فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن}: لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض، أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه.
{وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ}: أي انتهاء عدتهن وضع الحمل، وظاهر الآية أن عدة الحوامل هي بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن، وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة مستوفى، وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية الأخرى:
{والّذِين يُتوفّوْن مِنْكُمْ ويذرُون أزْواجا يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ أرْبعة أشْهُرٍ وعشْرا}.
وقيل: معنى {إِنِ} ارْتبْتُمْ: إن تيقنتم.
ورجح ابن جرير أنه بمعنى الشك، وهو الظاهر.
قال الزجاج: {إن ارتبتم} في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن تحيض مثلها.
وقال مجاهد: {إِنِ ارْتبْتُمْ} أي لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم تحض، فالعدة هذه.
وقيل: المعنى {إن ارتبتم} في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا بل استحاضة، فالعدة ثلاثة أشهر.
{ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} (4): أي من يتقيه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة.
وقال الضحاك: {من يتق الله} فيطلق للسّنّة، {يجعل له من أمره يسرا} في الرجعة.
وقال مقاتل: {من يتق الله} في اجتناب معاصيه، {يجعل له من أمره يسرا} في توفيقه للطاعة.

.[الآيتان: الخامسة والسادسة]:

{أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ولا تُضآرُّوهُنّ لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ وأْتمِرُوا بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ وإِنْ تعاسرْتُمْ فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا ما آتاها سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا (7)}.
{أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ}: هذا بيان ما يجب للنساء من السكنى، و(من) للتبعيض، أي بعض مكان سكناكم، وقيل: زائدة.
{مِنْ وُجْدِكُمْ}: أي من سعتكم وطاقتكم.
والوجد: القدرة.
قال الفراء: يقول على من يجد، فإن كان موسعا وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك.
قال قتادة: إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه.
وقد اختلف أهل العلم في المطلّقة ثلاثا هل لها سكنى ونفقة أم لا؟
فذهب مالك والشافعي إلى أن لها السكنى ولا نفقة لها.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن لها النفقة والسكنى.
وذهب أحمد وإسحق وأبو ثور إلى أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وهذا هو الحق.
وقد قرره الشوكاني في (شرحه للمنتقى) بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
{ولا تُضآرُّوهُنّ لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ}: في المسكن والنفقة.
وقال مجاهد: في المسكن.
وقال مقاتل: في النفقة.
وقال أبو الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
{وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ}: أي إلى غاية هي وضعهن للحمل. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة.
فأما الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا ينفق عليها إلا من نصيبها، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة.
{فإِنْ أرْضعْن لكُمْ}: أولادكم بعد ذلك.
{فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ} أي أجور إرضاعهن. والمعنى أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلّقين لهن منهن، فلهن أجورهن على ذلك.
{وأْتمِرُوا بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ}: هو خطاب للأزواج والزوجات، أي تشاوروا بينكم بمعروف غير منكر، وليقبل بعضكم من بعض المعروف والجميل.
وأصل معناه: ليأمر بعضكم بعضا بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم.
قال مقاتل: المعنى ليتراض الأب والأم على أجر مسمى. قيل: فالمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر، والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر.
{وإِنْ تعاسرْتُمْ}: أي في أجر الرضاع، فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر.
{فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى}: أي يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده، ولا يجب عليه أن يسلم بما تطلبه الزوجة، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر.
قال الضحاك: إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.
{لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ}: فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم.
{ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ}: أي كان رزقه بمقدار القوت أو مضيقا ليس بموسع.
{فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله}: أي مما أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك.
{لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا ما آتاها}: أي ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق.
{سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} (7): أي بعد ضيق وشدة سعة وغنى. اهـ.

.قال السايس:

من سورة الطلاق:
قال الله تعالى: {يا أيُّها النّبِيُّ إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ وأحْصُوا الْعِدّة واتّقُوا الله ربّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن إِلّا أنْ يأْتِين بِفاحِشةٍ مُبيِّنةٍ وتِلْك حُدُودُ الله ومنْ يتعدّ حُدُود الله فقدْ ظلم نفْسهُ لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا (1)}
{يا أيُّها النّبِيُّ إِذا طلّقْتُمُ النِّساء} إنما كان النداء خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته تكريما له عليه الصلاة والسلام، وإظهارا لجلالة منصبه، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهارا لمقامه فيهم، واعتبارا لترؤسه، وإنه المتكلّم عنهم، وإنه هو الذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدّون بأمر دونه.
وقيل الجمع في قوله: {إِذا طلّقْتُمُ} للتعظيم، مثل قوله تعالى: {قال ربِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] وقول القائل:
ألا فارحموني يا إله محمد.
وقيل: أراد يا أيها النبيّ ويا أيها المؤمنون، فحذف لدلالة الخطاب عليه.
وقيل: أراد يا أيها النبيّ قل للمؤمنين إذا طلقتم النساء إلخ.
وقد اتفق المفسّرون على اعتبار التجوّز في قوله تعالى: {إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} لأن الكلام لا يستقيم دونه، لما فيه من تحصيل الحاصل، أو كون المعنى إذا طلقتموهن فطلقوهنّ مرة ثانية، وهو غير مراد قطعا، فلابد من التجوّز، إما بإطلاق المسبب وإرادة السبب، وإما بتنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه، والمعنى: إذا أردتم تطليقهن تطلقوهن لعدتهنّ.
واللام في قوله تعالى: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} لام التوقيت كاللام الداخلة في التاريخ، نحو كتبته لثلاث مضين من المحرم، أي فطلّقوهن في عدتهن، أي في وقتها. والمراد بالأمر بإيقاع الطلاق في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض، وردت بذلك السنة الصريحة، فالمعنى: إذا أردتم تطليقهنّ، فلا تطلقوهن في الحيض، فهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم».
ليس معناه إيجاب السلم، بل معناه النهي عن السلم فيما لم يعلم كيله أو وزنه أو أجله.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مما يليك» ليس معناه إيجاب الأكل. بل معناه: النهي عن أن يجيل يده في الإناء، وهكذا جرى عرف اللسان العربي في كل ما كان من هذا القبيل، فكانت الآية دليلا على حرمة الطلاق في الحيض.
واتفق الفقهاء على أنّ ذلك طلاق بدعي محرّم. والمعنى: فيه الإضرار بالزوجة بتطويل المدة التي تتربصها، فإنّ بقية الحيض لا تحسب من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الأطهار، وكذلك لا تحسب هي ولا الطهر بعدها من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الحيض.
وأيضا ليس من الوفاء ولا من المروءة أن يطلقها في وقت رغبته عنها، لسبب لا دخل لها فيه.
وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس، لما ذكر من المعنى.
وأتت السنة الصحيحة بصورة ثالثة للطلاق البدعي المحرم، وهي أن يطلّقها في طهر جامعها فيه، والمعنى في ذلك أنه ربما يندم على الطلاق إذا ظهر الحمل، إذ الإنسان قد يسمح بطلاق الحائل لا الحامل، وقد لا يتيسّر له ردها، فيتضرر هو والولد.
واستثنى كثير من الفقهاء من الطلاق المحرّم خلعها في الحيض بعوض منها، لأنّ بذلها المال يشعر بحاجتها إلى الخلاص، وبرضاها بتطويل المدة، وقد قال تعالى: {فلا جُناح عليْهِما فِيما افْتدتْ بِهِ} وأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس في الخلع على مال من غير استفصال عن حال زوجته.
استدلّ أهل الظاهر بقوله تعالى: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} على أنّ الطلاق في الحيض لا يقع، ولا يترتب عليه حكم، لأن الآية ظاهرة في النهي عن الطلاق في غير العدة.
وقد بينت السنة ذلك، بأنه الطلاق في الحيض.
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ».
وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» قالوا: وهذا صريح في أنّ هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود وباطل. قالوا: وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي، فما الفرق بينه وبين الطلاق؟ وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرّمه ونهى عنه من الطلاق؟ وليس لكم متمسك في ذلك إلا رواية عن ابن عمر قد خالفها ما هو مثلها أو أحسن منها عن ابن عمر أيضا، فقد أخرج أبو داود عن أبي الزبير «أنّه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر، قال أبو الزبير: وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلّق امرأته حائضا فقال: طلّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض. قال عبد الله: فردها عليّ ولم يرها شيئا». وليست رواية نافع عن ابن عمر: «مره فليراجعها» بأصحّ من رواية أبي الزبير عنه: «فردها عليّ ولم يرها شيئا». وحينئذ يتعيّن الجمع بينهما بحمل المراجعة في قوله: «مره فليراجعها» على الارتجاع والرد إلى حالة الاجتماع كما كانا من قبل، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق البتة.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ الاستدلال بالآية على عدم وقوع الطلاق في الحيض موقوف على أنّ النهي عن الشيء يقتضي الفساد، وهي مسألة أصولية كثرت فيها المذاهب والآراء، وصحّح الحنفية منها أنه لا يقتضي الفساد مطلقا. وقال الشافعية: إنّه يدلّ على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد، أو إلى أمر داخل فيه، أو لازم له.
فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت نداء الجمعة، فلا يدل على الفساد، والنهي فيما نحن فيه لأمر مقارن، وهو زمان الحيض، فهو عندهم لا يدل على الفساد أيضا.
وأيّد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة، إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها، وقد قال الله تعالى: {فإِنْ طلّقها فلا تحِلُّ لهُ مِنْ بعْدُ حتّى تنْكِح زوْجا غيْرهُ} [البقرة: 230] وهذا يعمّ كلّ طلاق. وكذلك قوله: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقوله: {الطّلاقُ مرّتانِ} [البقرة: 229] وقوله: {وللمُطلّقاتِ متاعٌ} [البقرة: 241] وهذه كلها عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع، والمطلقة في الحيض داخلة في هذه العمومات.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» فما أصحه وما أبعده عن محل النزاع، فإنّ وقوع طلاق الحائض مشروع، فلا يقال فيه: إنه عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مردود، وتحريم الطلاق في الحيض لا يمنع ترتيب أثره وحكمه عليه، كالظهار، فإنّه منكر من القول وزور، ولا شكّ في ترتيب أثره وحكمه عليه، وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفّر، فهكذا الطلاق البدعي محرّم، ويترتب عليه أثره، إلى أن تراجع، وكذلك القذف محرّم، ويترتب عليه أثره من الحدود والشهادة.
وكذلك وطء الزوجة في الحيض محرّم، ويترتب عليه أثره وحكمه، حتى ولو دخل بزوجته وهي حائض اعتبر ذلك وطأ يقرّر المهر ويوجب العدة.
وكذلك الإيمان وهو أصل العقود وأجلها وأشرفها يزول بالكلام المحرّم إذا كان كفرا، فكيف لا يزول عقد النكاح بالطّلاق المحرم، الذي وضع لإزالته؟ وكذلك طلاق الهازل يقع مع تحريمه، لأنّه لا يحلّ الهزل بآيات الله، فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجادّ أولى أن يقع مع تحريمه.
والفرق بين النكاح المحرّم والطلاق المحرّم أنّ للنكاح عقد يتضمن حلّ الزوجة، وملك بضعها، فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعا، فإنّ الأبضاع في الأصل على التحريم، ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع بخلاف الطلاق، فإنه إسقاط لحقه، وإزالة لملكه، وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونا فيه شرعا. على أن من النكاح ما يكون محرما ويقع عقده صحيحا، كمن عقد على مخطوبة الغير، فإنّ الإقدام على هذا النكاح حرام، ومع ذلك إذا وقع العقد كان صحيحا.
وأما رواية أبي الزبير عن ابن عمر فردّها عليّ، ولم يرها شيئا، فهي مردودة لمخالفة أبي الزبير فيها من هو أوثق منه، قال أبو داود: والأحاديث كلّها على خلاف ما قال أبو الزبير.
وقال الشافعي: ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير عنه، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا تخالفا، وكذلك قال الخطابيّ. وقال ابن عبد البر: تفرّد بهذه الرواية أبو الزبير، وقد روى الحديث عن ابن عمر جماعة أجلة، فلم يقل ذلك أحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه.
وقال بعض أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا.
واستدل الشافعيّ بقوله تعالى: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} على أن الأقراء الأطهار، ووجه الاستدلال به أنّ اللام هي لام الوقت، أي فطلقوهن وقت عدتهن، وفد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بهذا التفسير.
ففي (الصحيحين) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلّق امرأته وهي حائض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء».
فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة، لا في العدة، وكان ذلك تطويلا عليها. ويشهد لهذا الذي ذهب إليه الشافعي قراءة ابن مسعود فطلقوهن لقبل طهرهن.
وقال الذاهبون إلى أن الأقراء الحيض: إنّ أهل العربية يفرّقون بين لام الوقت وفي التي للظرفية، فإذا أتوا باللام لم يكن الزمان المذكور بعدها إلا ماضيا أو منتظرا، ومتى أتوا بفي لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارنا للفعل، واعتبر ذلك في قولك:
(كتبته لثلاث خلون) و(كتبته بثلاث بقين) و(كتبته في ثلاث) ففي المثال الأول تكون الكتابة بعد مضي الثلاث، وفي المثال الثاني تكون الكتابة قبل حلول الثلاث، وفي المثال الثالث تكون الكتابة في نفس الثلاث وفي أثنائها. إذا تقرر ذلك يكون قوله تعالى: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} معناه فطلقوهن لاستقبال عدتهن، لا في عدتهم، إذ من المحال أن يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة، وإذا كانت العدة التي تطلّق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض، فإنّ الطاهر لا تستقبل الطهر، إذ هي فيه، وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها.
ولكن المعروف أن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التوقيت، واختصاص بذلك الوقت على الاتصال، لا استقبال الوقت، فلا تقول: كتبته لثلاث بقين إلا إذا كنت حين الكتابة متلبسا بأولها، فيكون معنى {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} فطلقوهنّ للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق.
واستدل بعض الناس بالآية على أنّ نفس الطلاق مباح، فإنّه إنما نهي عنه إذا كان سببا في تطويل مدة التربص، فاقتضى ذلك أنه إذا خلا عن هذا لم يكن منهيا عنه، بل كان مأذونا فيه، ولا يخفى على المنصف أنّ الآية لم تدل على أكثر من حرمة الطلاق في الحيض.
{وأحْصُوا الْعِدّة} أصل الإحصاء العد بالحصا، كما كانت عادة العرب قديما، ثم توسع فيه، فاستعمل في ضبط العدد وإكماله، فمعنى إحصاء العدة ضبطها وإكمالها ثلاثة قروء كوامل.
وإحصاء العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها: من حق الرجعة للزوج، والإشهاد عليها، ونفقة الزوجة وسكناها، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها، والإشهاد على فراقها إذا بانت، وتزوج غيرها من النساء ممن لمن يكن يجوز له جمعها إليها.
{واتّقُوا الله ربّكُمْ} في الإضرار بهنّ بتطويل العدة عليهن.
{لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن} نهي للأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهنّ عند الطلاق إلى أن تنتهي العدة، ونهي للمعتدات عن الخروج منها، وفيه دليل على وجوب السكنى لهنّ ما دمن في العدة، وستطلع على كلام في ذلك.
وأضاف البيوت إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها، كأنّها ملك لهنّ.
واختلفت آراء الفقهاء في ملازمة المعتدة بيت الفراق، أهو خالص حقّ الزوجين أم هو حقّ لهما وللشرع؟
فالصحيح عند الحنفية أنّ للشرع في ذلك حقا لا يملك الزوجان إسقاطه. وعلى ذلك يكون قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ} دالّا على حرمة إخراجهنّ بمنطوقه، وعلى حرمة الإذن لهنّ في الخروج بإشارته، لأنّ الإذن في المحرّم محرّم. كأنه قيل لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهم في الخروج إذا طلبن ذلك {ولا يخْرُجْن} بأنفسهم إن أردن.
وذهب الشافعية إلى أن ملازمتها بيت الفراق خالص حقهما، فلو اتفقا على الانتقال جاز، لأنّ الحقّ لا يعدوهما، وعليه يكون المعنى: لا تستبدّوا بإخراجهنّ، ولا يخرجن باستبدادهنّ.
{إِلّا أنْ يأْتِين بِفاحِشةٍ مُبيِّنةٍ} اختار بعض المفسّرين أنّ الفاحشة المبيّنة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة. وأنّ هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى: {ولا يخْرُجْن} والمعنى: لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو معصية وفاحشة، ومعلوم أنه لا يطلق لهن في المعصية والفاحشة، فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه.
ومنه ما روى مسلم في (صحيحه) عن ابن عباس، وقد عرض عليه بعض الناس كتابا كانوا يزعمون أنّ فيه قضاء عليّ كرم الله وجهه، فقال: ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضلّ. يريد: أنه لم يقض بهذا أبدا، لأنه لا يقضي به إلا إذا كان قد ضلّ، ومعلوم أنّ عليا لم يضل، فهو لم يقض به، وهذا أسلوب من أساليب العربية البديعة البليغة، تقول: لا تسب أخاك إلا أن تكون قاطع رحم، ولا تزن إلا أن تكون فاسقا فاجرا. روي هذا الوجه من التأويل عن ابن عمرو والسدي وابن السائب والنخعي، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله.
وقال ابن عباس: إلّا أن تبذو على أهله، فإذا فعلت ذلك حلّ لهم أن يخرجوها.
وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس بالانتقال حين بذت على أحمائها.
وقال الحسن وزيد بن أسلم: الفاحشة المبيّنة الزنى، فإذا زنت أخرجت لإقامة الحد.
وقيل: الفاحشة المبينة تطلق على النشوز.
قال الجصاص: هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون جمعها مرادا، فيكون خروجها فاحشة، وإذا زنت أخرجت للحد، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضا، قال: وما ذكرنا من التأويل المراد يدل على جواز انتقالها للعذر، لأنّ الله تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا.
ولكنّك تعلم أننا إذا خرّجنا الآية على المعنى الأول فإنّها تدلّ على أنه لا يباح خروجها بحال، فكيف يقول الجصاص: وجائز أن يكون جميع هذه المعاني مرادا؟
وتِلْك حُدُودُ الله أي الأحكام السابقة حدود الله التي حدّها وعيّنها لعباده، ومنْ يتعدّ حُدُود الله أي ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة فقدْ ظلم نفْسهُ فقد حمّل نفسه وزرا، وأكسبها إثما، فصار بذلك لها ظالما وعليها متعديا. أو فقد ظلم نفسه بتعريضها للضرر الدنيوي، كما سيأتي تفصيله.
{لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} هذه جملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون الشرطية السابقة.
والخطاب فيها للمتعدي بطريق الالتفات، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي.
والمعنى: من يتعدّى حدود الله فقد عرّض نفسه للضرر، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر، لعل الله يحدث في قلبك بعد الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي خلاف ما فعلت، فامتثل أمر ربّك، ولا تطلّق في الحيض، ولا تهمل في إحصاء العدة، ولا تخرج المعتدة من بيتها، لا يحملنك البغض والغضب على أن تفعل شيئا من ذلك، فإنّ الكراهة والمحبة بيد الله مقلب القلوب، فعسى أن ينقلب البغض محبة والمقت مقة، والطلاق رجعة، فانظر لنفسك، وأبق للصلح بابا، ولا تبتّ حبل المودة بتا، فتندم حين لا ينفع الندم، والواقع يصدّق ذلك، فإن الغالب في الطلاق أن يكون نتيجة كراهة كاذبة، أو ثورة غضب جامحة تغمر العقل، وتقوى عليه، حتى إذا تمّ الانفصال، وهدأت الأعصاب، وثاب الرجل إلى رشده، انتابته عوامل القلق والحنين إلى صحبة مضت أن تعود، وتذكّر من زوجته خلالا كان يرضاها، وقلما يخلو أحد من ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا».
وقد يكون بينهما ولد، أو يظهر بها حمل، فتتأكد الرغبة فيها، والندم على طلاقها.
قال الله تعالى: {فإِذا بلغْن أجلهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنّ بِمعْرُوفٍ وأشْهِدُوا ذويْ عدْلٍ مِنْكُمْ وأقِيمُوا الشّهادة لله ذلِكُمْ يُوعظُ بِهِ منْ كان يُؤْمِنُ بِالله والْيوْمِ الْآخِرِ ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مخْرجا (2) ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ ومنْ يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا (3)}
{فإِذا بلغْن أجلهُنّ} هذا من مجاز المشارفة، بقرينة ما بعده، لأنّه لا يؤمر بالإمساك بعد انقضاء العدة، أي فإذا شارفن آخر عدتهنّ {فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف}، والإمساك بالمعروف مراجعتهن مع حسن المعاشرة، والإنفاق المناسب، والمفارقة بالمعروف تخليتهنّ حتى تنقضي عدتهن مع إيفائهن حقهن، واتقاء الضّرار بهن.
{وأشْهِدُوا ذويْ عدْلٍ مِنْكُمْ} أي وأشهدوا عند الرجعة إن اخترتموها، أو الفرقة إن اخترتموها، لأنّ الإشهاد يقطع النزاع، ويدفع الريبة.
وهذا أمر ندب واستحباب في الرجعة والفرقة، كما في قوله تعالى: {وأشْهِدُوا إِذا تبايعْتُمْ} [البقرة: 282] وللشافعي قول في القديم بوجوب الإشهاد في الرجعة، وأنه شرط في صحتها. والجديد أنه لا يشترط لصحتها الإشهاد عليها، بناء على الأصح أنّها في حكم استدامة النكاح لا ابتدائه، ومن ثمّ لم يحتج فيها لولي ولا لرضاها، وإنما يندب فيها الإشهاد لقوله تعالى: {وأشْهِدُوا ذويْ عدْلٍ مِنْكُمْ} وصرفه عن الوجوب إجماعهم على عدم الوجوب عند الطلاق، فكذلك عن الإمساك.
{وأقِيمُوا الشّهادة لله} أي أدوا الشهادة أيها الشهود خالصة لوجه الله، وفيه دليل على وجوب إقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها، لأنّ الشهادة هنا اسم للجنس، وإن كان مذكورا بعد الأمر بإشهاد ذوي عدل على الرجعة أو الفرقة، لأنّ ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه.
{ذلِكُمْ يُوعظُ بِهِ منْ كان يُؤْمِنُ بِالله والْيوْمِ الْآخِرِ} الإشارة إلى ما تقدّم من الحث على إقامة الشهادة لله، أو إلى ما تقدّم من الأحكام كلها، من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج والخروج، والإشهاد على الرجعة أو الفرق، وإقامة الشهادة لله، أي هذه الأحكام يوعظ بها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، لأنه المنتفع بها.
{ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مخْرجا ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} هذا اعتراض جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام، أي {ومنْ يتّقِ الله} في كل عمله {يجْعلْ لهُ مخْرجا} من هموم الدنيا ومضارها، وغمرات الموت وأهوال الآخرة وشدائدها، ويرزقه الفوز بخيري الدارين، من وجه لا يخطر بباله، وإذا كان هذا وعدا لعامة المتقين، تناول بعمومه الزوج الذي اتقى الله في الطلاق للسنة، ولم يخرج المعتدة من مسكنها، وأمسك بمعروف أو فارق بمعروف، واحتاط فأشهد على ما اختار، يعد الله هذا الزوج بالخلاص مما عسى أن يقع فيه من الهموم ومشاكل الزوجية، ويفرّج عنه ما يعتريه من الكروب، {ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} وكذلك يتناول الزوجة التي اتقت الله فيما عليها من حق، فلم تخرج من منزل عدتها، ولم تكتم ما خلق الله في رحمها، فالله يعدها على هذه التقوى بتفريج كربها، ورزقها من حيث لا تحتسب.
{ومنْ يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ} أي فهو كافيه جل شأنه في جميع أموره، لأنّ الله هو القادر على كل شي ء، الغني عن كل شي ء، الجواد بكل شي ء، فإذا فوّض العبد الضعيف أمره إليه كفاه لا محالة ما أهمّه.
{إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ} إنّ الله يبلغ ما يريده سبحانه، ولا يفوته مراد.
{قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا} أي إنّه عزّ وجلّ قدّر الأشياء قبل وجودها، وعلم مقاديرها وأوقاتها، وإذا كان كلّ شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى، ولا يقع إلا حسبما علم، لم يسع العاقل إلا التسليم للقدر، وفي هذه الجملة كسابقتها بيان لوجوب التوكل عليه تعالى، وتفويض الأمر إليه جلّ ثناؤه.
قال الله تعالى: {واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا (4) ذلِك أمْرُ الله أنْزلهُ إِليْكُمْ ومنْ يتّقِ الله يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لهُ أجْرا (5)}
أخرج الحاكم، وصححه البيهقي في (سننه) وجماعة عن أبيّ بن كعب أنّ أناسا من أهل المدينة لما نزل قوله تعالى في سورة البقرة: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهنّ الحيض، وذات الحمل، فأنزل الله التي في سورة النساء القصرى {واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ} الآية.
جعل الله عدّة الآيسة ثلاثة أشهر، ولا خلاف بين الفقهاء في أن المرأة ما دامت ترى الحيض فهي من ذوات الأقراء، لا تكون آيسة ولو بلغت مئة سنة.
إنما خلافهم فيمن انقطع حيضها متى تكون آيسة، وتعتد بالأشهر؟ ألذلك حدّ معين أم ليس له حد معين؟
والقائلون بالتحديد مختلفون، فمنهم من قدّره بالسنين. بخمسين سنة وبخمس وخمسين وبستين وباثنتين وستين إلى أقوال أخر، أقصاها خمس وثمانون، ومنهم من اعتبره بيأس النساء في بلدها الذي هي فيه، فإنّ المكان إذا كان طيب الهواء والماء كبعض الصحارى يبطئ فيها سنّ اليأس، وقيل: يأس كل النساء إلخ.
قال أصحاب التحديد: إن اليأس يعتمد غلبة الظن، ومهما انقطع دم المرأة فإنّها لا تزال ترجو عوده، ولا يتأكد الظن بعدم عوده إلا إذا بلغت من السن مبلغا لا يحيض مثلها فيه، وأمر العدد مبني على الاحتياط وطلب اليقين ما أمكن.
والقائلون بعدم التحديد يقولون: اليأس ضدّ الرجاء، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم ترجه فهي آيسة، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا، ولو كان لها أربعون سنة أو أقل، كما أنّها ما دامت تحيض وترى الدم وترجوه فهي ليست آيسة، ولو كان لها سبعون سنة أو أكثر، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا. وكما أنه يرجع في الاعتداد بالأقراء إلى عادة المعتدة نفسها، لا إلى عادة غيرها، كذلك يرجع في الإياس إلى كل امرأة من نفسها، وكما أنّهم لم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا، كذلك ينبغي ألا يكون للكبر الموجب للاعتداد بها حدا.
وينبني على الخلاف في التحديد وعدمه خلافهم في المرأة التي طلّقت، وكانت من ذوات الأقراء، ثم ارتفع حيضها، بماذا تعتد؟
فأصحاب التحديد يقولون: تنتظر حتى ترى الدم أو تبلغ حدّ اليأس، فتعتد بثلاثة أشهر، ولو كانت مدة التربص أكثر من عشر سنين. وهذا هو مذهب الحنفية وقول الشافعي في الجديد.
والذين لا يرون لليأس حدّا يقولون: تتربّص غالب مدة الحمل، ثم تعتد عدة الآيسة، ثم تحلّ للأزواج مهما كانت سنها، قالوا: وقد صحّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة طلّقت، فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم ارتفعت حيضتها، لا تدري ما رفعها، أنّها تتربص تسعة أشهر، فإن استبان بها حمل وإلا اعتدت ثلاثة أشهر. وقد وافقه كثير من الفقهاء على هذا منهم مالك وأحمد والشافعي في القديم.
وكذلك اختلفوا في متعلّق الارتياب في قوله تعالى: {إِنِ ارْتبْتُمْ} فقال جماعة: إن ارتبتم في حكمهنّ فلم تدروا ما عدتهن؟ فعدتهن ثلاثة أشهر، وعلى ذلك يكون الشرط بيانا للواقعة التي نزل فيها الحكم من غير قصد للتقييد، فلا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم.
قال آخرون: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أم استحاضة، وإذا كانت هذه عدة المرتاب في دمها، فغير المرتاب في دمها أولى بذلك.
وقال الزجاج: المعنى: إن ارتبتم في حيضهن، وقد انقطع عنهن الدم، وكن ممن يحيض مثلهن. إلى أقوال أخر.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عنى بذلك إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ. وذلك أنّ معنى ذلك لو كان كما قاله من قال: إن ارتبتم بدمائهن فلم تدروا أدم حيض أم استحاضة، لقيل: إن ارتبتنّ، لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهن فهن المرتابات بدماء أنفسهن لا غيرهن. وفي قوله: {إِنِ ارْتبْتُمْ} وخطابه للرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أنّ معناه: إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ.
وأخرى: وهي أنّه جل ثناؤه قال: {واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتبْتُمْ} واليائسة من المحيض هي التي لا ترجو محيضا للكبر، ومحال أن يقال: واللائي يئسن، ثم يقال: ارتبتم بيأسهن، لأن اليأس هو انقطاع الرجاء، والمرتاب بيأسها مرجو لها، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في وقت واحد. اه.
وهذا الذي اختاره ابن جرير وافقه عليه جمهور المفسرين، وليس عليه اعتراض سوى أن يقال: إذا كان معنى {إِنِ ارْتبْتُمْ} إن جهلتم عدتهن فسألتم عنها، فأي فائدة في ذكر هذا الشرط بعد أن كان معلوما في كل الأحكام الشرعية أنّ الله أنزلها لتعليم من لا يعلم؟
وأجابوا عن ذلك بأنّ المقصود: إن سألتم عن حكمهنّ، وشككتم فيه، فقد بيناه لكم أيها السائلون، ففيه تنويه بشأن السائلين، وبيان لنعمته تعالى عليهم حين أجاب طلبهم، وأزال ما عندهم من الشك والريب، بخلاف المعرض عن طلب العلم الذي لم يخطر بباله، استوفيت عدد النساء أم لم تستوف؟
{واللائِي لمْ يحِضْن} مبتدأ خبر محذوف، أي واللائي لم يحضن كذلك، أي عدتهن ثلاثة أشهر، يريد أنّ المعتدة التي لم يسبق لها حيض تعتد بثلاثة أشهر، سواء أكان عدم حيضها لصغر، أم لعلة، أم لمنعه بدواء.
ولا نعلم خلافا في أنّ التي لم تر الحيض أصلا تعتد بثلاثة أشهر، مهما بلغت من السنّ، إلا رواية عن أحمد رحمه الله فيمن بلغت ولم تحض أنّها تتربص تسعة أشهر غالب مدة الحمل، فإن استبان حملها وإلا اعتدت ثلاثة أشهر، فيكون مثلها كمثل التي ارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه. والرواية الثانية عن أحمد الموافقة لرأي الجمهور أنها تعتد ثلاثة أشهر، ولم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا.
أخذ العلماء من قوله تعالى: {واللائِي لمْ يحِضْن} أن للإنسان أن يزوّج ولده الصغار، لأنّ الله تعالى جعل على من لم تحض من النساء لصغر أو غيره عدة، ولا يكون على الصغيرة عدة إلّا أن يكون لها نكاح.
وظاهر العموم في قوله تعالى: {واللائِي يئِسْن} وقوله تعالى: {واللائِي لمْ يحِضْن} أنّ الحرة والأمة في ذلك سواء، فكما تعتد الحرة الآيسة أو الصغيرة بثلاثة أشهر، كذلك تعتد الأمة الآيسة أو الصغيرة ثلاثة أشهر، وبهذا قال أهل الظاهر وابن سيرين ومكحول ومالك، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد رحمهم الله.
وقال جمهور العلماء: عدة الأشهر فرع وبدل عن عدّة الأقراء، وقد جرى عمل المسلمين من الصحابة والتابعين على أنّ عدة الأمة ذات الأقراء قرآن، ولا يعرف في الصحابة مخالف في ذلك. وبه قال الأئمة الأربعة، وخلائق من فقهاء الأمصار لا يحصون عدا، ذهبوا إلى أنّها على النصف من عدة الحرة. ولولا أنّ القرء لا يمكن تنصيفه لكانت عدتها قرءا ونصفا.
ثم من هؤلاء الفقهاء من قال: عدة الأمة الآيسة والصغيرة شهران، لأن عدتها بالأقراء قرآن، فجعل كلّ شهر مكان قرء، وهو أحد أقوال الشافعي، وأشهر الروايات عن أحمد.
ومنهم من قال: عدتها شهر ونصف، لأن التصنيف في الأشهر ممكن، فتنصفت بخلاف القروء، ونظير هذا أنّ المحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مدّ أخرجه، فإن أراد الصيام مكانه لم يجز إلا صوم يوم كامل، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، والقول الثالث للشافعي، ورواية ثالثة عن أحمد رحمهم الله.
ثم إنّه لا تعارض بين قوله تعالى: {واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن} وقوله تعالى في سورة البقرة: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. فإنّ آية البقرة خاصّة بذوات الأقراء، والآيسة والتي لم تحض ليستا من ذوات الأقراء، وهو ظاهر. إنما التعارض بين الآية التي معنا وقوله تعالى في سورة البقرة: {والّذِين يُتوفّوْن مِنْكُمْ ويذرُون أزْواجا يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ أرْبعة أشْهُرٍ وعشْرا} [البقرة: 234] فإنّ آية البقرة عامة تشمل ذوات الأقراء واللائي يئسن واللائي لم يحضن، فتقضي بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة أربعة أشهر وعشرا، والآية التي معنا عامة في السبب الذي من أجله كانت العدة، سواء أكان فرقة حي أم فرقة ميت، فاقتضت بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر، فكان بين النصين تعارض في ظاهرهما.
لكنّ العلماء يكادون يجمعون على أنّ الآية التي معنا واردة في خصوص عدة الطلاق، لأنّ سياق الآية ظاهر في ذلك، وحينئذ يكون اعتداد الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر خاصا بالمعتدات المطلقات، فلا يكون بين الآيتين تعارض.
{وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} أجل الشيء مدته كلها، وأجله أيضا آخر مدته، والمراد بالأجل هنا آخر المدة التي تتربصها المرأة، أي آخر عدتهن أن يضعن حملهن، وظاهر هذا أنّ المعتدة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواء أكانت معتدة عن طلاق أم عن وفاة، فتكون الآية معارضة لآية البقرة، وهي قوله تعالى: {والّذِين يُتوفّوْن مِنْكُمْ ويذرُون أزْواجا يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ أرْبعة أشْهُرٍ وعشْرا} لأن بين الآيتين عموما وخصوصا من وجه. وذلك أنّ آية البقرة أعم من التي معنا في المعتدات، إذ تشمل الحامل وغير الحامل، وأخص من التي معنا في سبب العدة وهو الوفاة وعلى العكس من ذلك الآية التي معنا، فكان التعارض واقعا بينهما في القدر الذي اجتمعتا عليه واشتركتا فيه، وهو عدة المتوفى عنها الحامل، فآية البقرة تجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا، والآية التي معنا تجعل عدتها مدة حملها، فمتى وضعت فقد انقضت عدتها.
ومن أجل هذا التعارض اختلف السلف في عدة المتوفى عنها إذا كانت حاملا، فقال علي وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم: تعتد بأبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرا، وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه الله، واختاره سحنون.
وقال جمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة: إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل، ولو كان الزوج على مغسله فوضعت حلّت.
فمن ذهب إلى أبعد الأجلين احتجّ بأنّ النصين متعارضان على ما سمعت، ولا يمكن تخصيص العموم في أحدهما بالخصوص في الآخر، لأنّ ذلك إلغاء، ولا يصار إلى الإلغاء إلا إذا تعذّر الجمع، والجمع هنا ممكن، فكان هو المتعين، وبالاعتداد بأبعد الأجلين يحصل الجمع بين النصين، لأنّ مدة الحمل إن زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة، وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت، فيحصل العمل بمقتضى الآيتين.
وأنت تعلم أنّ هذا إنما هو جمع بين المدتين، ولا يعدّ جمعا بين النصين.
وإعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه، وذلك أنها إذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر ثم حكمنا عليها بأنها لا تزال في العدة، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} فإنّه ظاهر في أنه لا عدة عليها بعد وضع الحمل، وأنها حلال للأزواج متى وضعت حملها.
وأصحاب هذا الرأي يحرمونها على الأزواج، ويلزمونها القرار في مسكن العدة إلى أن تنتهي أربعة الأشهر والعشر. فكيف يقال بعد ذلك إنّهم عملوا بمقتضى الآية التي معنا؟
وكذلك يقال فيمن مضى عليها أربعة أشهر وعشر ولم تضع حملها إذا ألزمناها الاعتداد إلى وضع الحمل، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: {يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ أرْبعة أشْهُرٍ وعشْرا} وهو ظاهر. فلم يكن في هذا المذهب جمع بين النصين، بل فيه إهدار لأحد النصين لا محالة.
أما الجمهور الذين قالوا: إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل فقط، فدليلهم على ذلك: أنّ السنة الصريحة دلت على اعتبار الحمل فقط. كما في (الصحيحين) أنّ سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجمّلت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل، فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح إنّك والله ما أنت بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوّج إن بدا لي.
وصحّ أيضا أنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة وهما يذكران المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس: عدّتها آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: قد حلت، فجعلا يتنازعان ذلك فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي- يعني أبا سلمة-، فبعثوا كريبا- مولى ابن عباس- إلى أم سلمة رضي الله عنها يسألها عن ذلك، فجاءهم، فأخبرهم أنّ أمّ سلمة قالت: إنّ سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، وإنّها ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوّج.
وروى الضياء في (المختارة) وابن مردويه وغيرهما عن أبي بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم، {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} أهي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها؟ قال: «هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها».
فجاءت السنة مبيّنة أنّ قوله تعالى: {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} عام في المطلقة والمتوفى عنها، وأنّ عموم الآية مراد، وإن كان السياق يقتضي أنها خاصة بالمطلقات، فصارت الآية بعد بيان السنة ناصّة على أنّ عدة الحامل المتوفى عنها تنتهي بوضع الحمل فقط، والآية التي معنا نزلت بعد آية البقرة، كما أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من شاء باهلته أنّ الآية التي في سورة النساء الصغرى {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ} إلخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا.
وفي البخاري عنه أيضا أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى فتكون الآية التي معنا ناسخة لآية البقرة فيما اجتمعتا عليه، واشتركتا فيه، فصار المراد من الأزواج في قوله تعالى: {والّذِين يُتوفّوْن مِنْكُمْ ويذرُون أزْواجا} الآية غير الحوامل من المتوفى عنهن.
ومن الناس من قال: الآية التي معنا خاصة بالمطلقات كما هو ظاهر السياق.
وآية البقرة خاصّة بالمتوفى عنهن، فلا تعارض بينهما، غير أنّ السنة الصحيحة وردت بإخراج الحوامل من عموم الأزواج في قوله تعالى: {ويذرُون أزْواجا} فجعلت المراد منهن غير الحوامل، فكانت آية البقرة مخصوصة بالسنة، وكان حكم الحوامل المتوفى عنهنّ معلوما من السنة لا من الكتاب.
ومنهم من قال: الآية التي معنا أخصّ مطلقا مما في سورة البقرة، وبيان ذلك أنّ الله ذكر في سورة البقرة حكم المطلقات من النساء، وحكم المتوفى عنهنّ في آيتين على التفريق، ثم وردت هذه الآية التي معنا بعدهما مخصّصة في البابين معا، ولا شك أنّ المستفاد من آيتي البقرة هو أنّ عدة المعتدات الحوامل وغير الحوامل إما ثلاثة قروء، وإما أربعة أشهر وعشر، وأن المستفاد من الآية التي معنا أنّ عدة المعتدات الحوامل تنتهي بوضع الحمل، فكانت الآية معنا أخص مطلقا من آيتي البقرة، وقد نزلت بعدهما، فكانت مخصّصة لهما. والله أعلم.
واقتضى قوله تعالى: {أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} أنّ العدة تنقضي بوضع الحمل، وأنّ المرأة إذا وضعت حملها فقد حلّت للأزواج، ولا يتوقف حلّها على طهرها من النفاس خلافا للشعبي والحسن وإبراهيم النخعي وحماد، فإنّهم قالوا: لا يصحّ زواجها حتى تطهر من نفاسها، واحتجوا بقوله في حديث سبيعة: «فلما تعلّت من نفاسها» أي طهرت منه، ولا حجة لهم فيه، لأنّ ذلك إخبار عنه وقت سؤالها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنها حلت حين وضعت» ولم يعلل بالطهر من النفاس.
وكذلك اقتضى قوله تعالى: {أنْ يضعْن حمْلهُنّ} أنها إذا كانت حاملا بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضعهما جميعا، واقتضى أيضا أن العدة تنقضي بوضع الحمل، سواء أكان حيا أم ميتا، تام الخلقة أم ناقصها، نفخ فيه الروح أم لم ينفخ.
وظاهر العموم في قوله تعالى: {وأُولاتُ الْأحْمالِ} أنّ الحرة الأمة في الاعتداد بوضع الحمل سواء، ولا نعلم خلافا في ذلك بين العلماء.
{ومنْ يتّقِ الله يجْعلْ لهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} أي ومن يخف الله فيأتمر بما أمر به وينته عما نهى عنه يسهّل عليه أمره كله.
{ذلِك أمْرُ الله أنْزلهُ إِليْكُمْ} الإشارة إلى ما تقدّم من الأحكام كلّها يقول تعالى ذكره: هذا الذي بينت لكم من حكم الطلاق والرجعة والعدة أمر الله أنزله إليكم لتأتمروا له، وتعملوا به {ومنْ يتّقِ الله يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ} يمح ذنوبه من صحائف أعماله، ولا يؤاخذه بها {إِنّ الْحسناتِ يُذْهِبْن السّيِّئاتِ} [هود: 114] {ويُعْظِمْ لهُ أجْرا} ويضاعف له جزاء حسناته، ويجزل له المثوبة على عمله.
قال الله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ولا تُضآرُّوهُنّ لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ وأْتمِرُوا بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ وإِنْ تعاسرْتُمْ فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى (6)}
{أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ أي} أسكنوهنّ بعض مكان سكناكم {مِنْ وُجْدِكُمْ} بدل: أو عطف بيان لقوله تعالى: {مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ}. والوجد: الوسع، أي أسكنوهنّ من وسعكم، ومما تطيقونه.
وظاهر قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} يقتضي وجوب السكنى لكل مطلقة، سواء أكانت رجعية أم بائنا، وسواء أكانت حاملا أم غير حامل.
وظاهر قوله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ} يقتضي بمنطوقه وجوب النفقة للمطلقات الحوامل، سواء أكنّ رجعيات أم بوائن، وبمفهومه عند القائلين به أنه لا نفقة لغير الحامل، سواء أكانت رجعية أم بائنا.
وقد أجمع العلماء على أنّ للرجعية السكنى والنفقة، أما السكنى فلقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} وقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن} أما النفقة فلأنّ الرجعية كالزوجة في بقاء حبس الزوج وسلطته عليها، فكان إجماعهم على وجوب النفقة لها، ولو لم تكن حاملا مخصّصا لمفهوم قوله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ} لغير الرجعية عند القائلين بالمفهوم.
وكذلك على أن للبائن الحامل السكنى والنفقة، لقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} وقوله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ}.
أما البائن غير الحامل فقد اختلف العلماء في سكناها ونفقتها على ثلاثة أقوال:
أحدها: وجوب السكنى والنفقة.
والثاني: عدم وجوبهما.
والثالث: وجوب السكنى دون النفقة.
فأما وجوب السكنى والنفقة فهو قول عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين. وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وسائر فقهاء الكوفة:
احتجوا لوجوب السكنى بقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة. ولوجوب النفقة بأنها جزاء الاحتباس، وهو مشترك بين الحائل والحامل، ولو كان الإنفاق جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال، ولم يقولوا به.
وقوله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ} ليس للشرط فيه مفهوم مخالفة، بل فائدته أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل، فأثبت لها النفقة، ليعلم غيرها بطريق الأولى فهو من مفهوم الموافقة. وقد قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلّقها زوجها البتة: لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة.
وأما القول بأنها لا سكنى لها ولا نفقة فهو مروي عن ابن عباس وأصحابه، وجابر بن عبد الله، وفاطمة بنت قيس من فقيهات نساء الصحابة، وكثير من التابعين، وإليه ذهب إسحاق وداود وأحمد وسائر أهل الحديث، وحجتهم في ذلك حديث فاطمة بنت قيس الذي اتفق على صحته المحدثون.
أخرج مسلم وغيره عن فاطمة بنت قيس أنّ أبا عمرو بن حفص طلّقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شي ء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له فقال: «ليس لك عليه نفقة» وفي رواية «لا نفقة لك ولا سكنى»، وفي أخرى للنسائي «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة».
وقالوا: وقوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ} إنما هو في الرجعيات خاصة، لأنّ الله تعالى ذكر للمطلقات في هذه السورة أحكاما متلازمة، لا ينفك بعضها عن بعض:
أحدها: أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهن.
والثاني: أنّهن لا يخرجن.
والثالث: أنّ لأزواجهن إمساكهن بالمعروف قبل انقضاء الأجل، أو فرقتهن بالمعروف.
والرابع: إشهاد ذوي عدل، وهو إشهاد على ما اختار من الرجعة والفرقة، وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك، وأنّه في الرجعيات خاصة بقوله: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} والأمر الذي يرجى إحداثه هاهنا هو المراجعة، كما قال السلف، ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات فقال: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ} فكان الظاهر من سياق الكلام ونظمه أنّ الضمائر كلها متّحد مفسرها، وأحكامها كلها متلازمة.
وكان قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» مفسّرا لكتاب الله، ومبيّنا للمراد منه، وأنّ الأمر بالإسكان إنما هو في خصوص الرجعيات.
قالوا: ولو سلمنا أنّ الآية عامة في الرجعيات والبوائن لكان الحديث مخالفا لعمومها، وحينئذ يكون الحديث مخصصا لعموم الآية، فحكمها حكم تخصيص العام من الكتاب بالخاص من السنة، وهو كثير.
قالوا: وإذا بانت المرأة من زوجها صارت أجنبية، ولم يبق إلّا مجرد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة أو زنى، ولأنّ النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين في الاستمتاع، والبائن لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها، ولأنّ النفقة لو وجبت عليه لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها من ماله، ولا قائل به.
وأما القول بأنّ لها السكنى دون النفقة: فهو رأي فقهاء المدينة، وإليه ذهب مالك والشافعي، واحتجوا لوجوب السكنى بظاهر العموم في قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ} ولعدم وجوب النفقة بحديث فاطمة بنت قيس مع ظاهر قوله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ} فإنّ مفهومه أنهنّ إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن، قالوا: وحديث فاطمة صحيح لا ننكر صحته، ولكنه قد خالف في السكنى ظاهر العموم في قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} ويجب قبيل القول بالتخصيص أو النسخ الجمع بين الحديث والآية ما أمكن. وقد جاء في (الصحيحين) عن عائشة وغيرها أنّ فاطمة كانت امرأة لسنة، وأنها استطالت على أحمائها، فأمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالانتقال من مسكن فراقها.
وفي (صحيح البخاري) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنّ فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها.
وفي (صحيح مسلم) عن هشام عن أبيه عن فاطمة نفسها قالت: «قلت: يا رسول الله، زوجي طلّقني ثلاثا، وأخاف أن يقتحم علي، قال: فأمرها فتحوّلت». فلما كان من الممكن حمل إسقاط السكنى في الحديث على أنّه كان لاستطالتها على أحمائها، أو لخوفها أن يقتحم عليها، أو لهما معا، تعيّن تأويل الحديث على هذا المعنى، للجمع بينه وبين الآية، وصار المراد من الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن لها في الانتقال لعذر، وهذا لا ينافي وجوب السكنى للمعتدة البائن.
قال الجصاص في حديث فاطمة بنت قيس: وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعرّيها من نكير السلف اه.
ولما كان هذا ردّا لحديث صححه المحدثون، وأخذ به جمع من الفقهاء والأئمة العارفين بعلل الأحاديث وطرق الجرح والتعديل، أحببنا أن نذكر خلاصة للمطاعن التي وردت على هذا الحديث مع بيان ما فيها.
روى مسلم في (صحيحه) عن الأسود بن يزيد أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال- وقد ذكر له قول فاطمة بنت قيس-: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن إِلّا أنْ يأْتِين بِفاحِشةٍ مُبيِّنةٍ}.
وروى ابن حزم في (المحلى) والجصاص في (أحكام القرآن) عن حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة ابنت قيس، فقال له إبراهيم: إنّ عمر بن الخطاب أخبر بقولها فقال: لسنا بتاركي آية في كتاب الله وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لعلها أوهمت! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها السكنى والنفقة».
وفي النسائي أن الأسود بن يزيد سمع الشعبي يحدّث بحديث فاطمة بنت قيس، فأخذ كفا من حصباء فحصبه وقال: ويلك لم تفتي بمثل هذا؟ قال عمر رضي الله عنه: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم نترك كتاب ربنا لقول امرأة.
وروى مسلم في (صحيحه) أن مروان بن الحكم قال في حديث فاطمة: لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها.
وحاصل هذه المطاعن يرجع إلى أربعة أمور:
الأول: أنّ راويته امرأة.
والثاني: أنّها لم تأت بشاهدين يتابعانها على حديثها.
والثالث: أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن.
والرابع: أن روايتها خالفت السنة.
فأما أنها امرأة، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يعدّ مطعنا، فإن أحدا من أصحاب الجرح والتعديل لم يقل بأنّ الأنوثة من الأمور التي تردّ بها الرواية، ولم يختلفوا في أنّ السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل، وكما أنّ في الرجال عدالة وضبطا كذلك في النساء عدالة وضبط، وكم من سنة تلقتها الأئمة بالقبول عن امرأة، وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس، لا تشاء أن ترى فيها سنة تفرّدت بها امرأة منهنّ إلا رأيتها.
وأما أنّها لم تأت بشاهدين، فذلك أيضا ليس بجرح ترد له الرواية، ولم يشترط أحد في الرواية نصابا، ولم يكن طلب عمر الشهادة على الرواية وكذلك تحليف عليّ كرّم الله وجهه، إلا تثبتا منهما رضي الله عنهما، حتّى لا يركب الناس الصعب والذلول في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه في حديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتّى شهد له أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي حديث المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شهد له محمد بن مسلمة كلّ ذلك كان تثبتا منه رضي الله عنه، وتحذيرا من الإكثار في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّه كان يعتبر الشهادة شرطا في قبول الرواية، وإلا فقد قبل عمر خبر الضحاك بن سنان الكلابي وحده، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدّة أخبار تفرّدت بها.
وأما أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن، فقد أجبنا عنه في تقرير مذهب أهل الحديث في سكنى البائن ونفقتها، وحاصله أنّ الآية إما أن تكون خاصّة بالرجعيات كما هو ظاهر السياق، وإما أن تكون عامة في الرجعيات والبوائن.
فإن كانت خاصة بالرجعيات فلا مخالفة بينها وبين حديث فاطمة، وهو ظاهر، وإليه ذهب الإمام أحمد، رحمه الله، روى عنه أصحابه أنّه أنكر هذا من قول عمر، وجعل يتبسم ويقول: أين في كتاب الله إيجاب السكنى والنفقة للمطلّقة ثلاثا؟ وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة بنت قيس راوية الحديث، وقالت: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
وإن كانت الآية عامة في الرجعيات والبوائن، فليس هذا أوّل موضع خصّص فيه الكتاب بالسنة، فآية المواريث خصّصت بالسنة الدالة على أن الكافر والقاتل والرقيق لا يرثون، وقوله تعالى: {وأُحِلّ لكُمْ ما وراء ذلِكُمْ} [النساء: 24] خصّص بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث.
وأما أنّ روايتها تضمنت مخالفة السنة فلا نجد سنة مخافة لحديث فاطمة، إلا روايتين عن عمر رضي الله عنه:
إحداهما: قوله لا ندع كتاب ربّنا وسنة نبينا، وهذا له حكم المرفوع.
والثانية: قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها السكنى والنفقة».
أما الرواية الأولى عن عمر فقد قال فيها الإمام أحمد رحمه الله: لا يصحّ ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو الحسن الدار قطني قوله: «و سنة نبينا» هذه زيادة غير محفوظة، لم يذكرها جماعة من الثقات، بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا، ومن له إلمام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة الله أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول الله أنّ للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة.
وأمّا الرواية الثانية: فلم يخرّجها فيما نعلم إلا ابن حزم والجصّاص عن حماد عن إبراهيم أنّ عمر إلخ ومعلوم أنّ إبراهيم لم يولد إلا بعد وفاة عمر بسنين، فالخبر منقطع، وقد أنكره علماء الحديث، وصرّح ابن القيم بأنّه مكذوب على عمر، وأنه لو كان هذا عند عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم لخرست فاطمة وذووها، ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الله عنه، وأحسنّا به الظن، كان قد روى قول عمر بالمعنى، وظنّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمبتوتة حين قال عمر: لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة.
وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيّب فذكر له ميمون خبر فاطمة بنت قيس فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس.
فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتنت الناس، وإنّ لنا في رسول الله أسوة حسنة اه.
ولا نعلم أحدا من الفقهاء إلّا وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام. وقد ذكر النووي في (شرحه على صحيح مسلم) ستة عشر حكما استنبطها العلماء من هذا الحديث.
وإذا قد تبيّن أنّ هذه المطاعن مردودة ولم يقدح شيء منها في صحة الحديث لزم القائلين بوجوب السكنى والنفقة للمبتوتة أن يجمعوا بينه وبين الآية ما أمكنهم الجمع، وإلا فالنسخ أو التخصيص.
وقد سلك الجصاص في تأويل الحديث طريقة أقرب إلى الصواب، وأخفّ في الاستهجان من رد الحديث وإنكاره، والطعن فيه بغير مطعن، قال: وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة، وذلك أنّه قد روي أنها قد استطالت بلسانها على أحمائها، فأمروها بالانتقال، فلما كان سبب النقلة من جهتها، كانت بمنزلة الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا اه.
والخطاب في قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ} وقوله تعالى: {فأنْفِقُوا عليْهِنّ} للأزواج، فاقتضى ذلك بظاهره أنّ السكنى والنفقة إنما تكونان للزوجات المطلقات، لا المتوفى عنهن من الزوجات.
وقد روى الدار قطني بإسناد صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس للحامل المتوفى عنها زوجها نفقة» فالمتوفى عنها غير الحامل أولى ألا يكون لها نفقة.
ولا نعلم خلافا في ذلك إلا ما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان بوجوب النفقة للمتوفى عنها من التركة، وظاهر الآية والسنة الصحيحة على خلاف ما يقولان.
{فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ} أي فإن أرضعن لكم بعد انقضاء عدتهن بوضع حملهن فأدوا إليهنّ أجورهن على الإرضاع، والتزموا ذلك لهن.
دلّ هذا على أنّ الأمّ إذا رضيت أن ترضع ولدها بأجر المثل، فهي أحقّ به، لوفور شفقتها، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد، وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ.
ودلّ على أنّ الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل، لا بالعقد، لأنّ الله أوجبها بعد الرضاع، بقوله: فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ.
ودلّ أيضا على أنّ نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنّه إذا لزمه أجرة الرضاع فكفايته ألزم، ومن ثمّ أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له، وألحق به بالغ عاجز كذلك،
لخبر هند بنت عتبة «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
{وأْتمِرُوا بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما.
{وإِنْ تعاسرْتُمْ} أي، وإن ضيّق بعضكم على بعض في الأجرة، أو في الرضاع، كأن تشتطّ الأمّ في الأجرة، أو تأبى الرضاع، أو يشاح الأب في أجرة المثل {فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى} الكلام على معنى: فليطلب له الأب مرضعة أخرى، وبذلك يظهر الارتباط بين الشرط والجزاء. وإنما اختير ما في النظم الجليل ليكون فيه نوع من المعاتبة للأمّ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيأبى: سيقضيها غيرك، أي ستقضي وأنت ملوم، ففيه تنبيه على أنّ الأمّ لا ينبغي لها أن تعاسر في رضاع ولدها، فإنّ المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، ولبنها غير متموّل، ولا مضنون به في العرف والعادة، وخصوصا من الأم للولد، وليس كذلك المبذول من جهة الأب، فإنّه المال المضنون به عادة، فكانت الأمّ أجدر باللوم، وأحقّ بالعتب.
ودلّ قوله تعالى: {وإِنْ تعاسرْتُمْ فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى} على أنّها إذا طلبت أكثر من أجر المثل، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجرة المثل، إذا قبل الصبيّ ثدي الأجنبية، ولم يحصل له ضرر بلبنها، وإلا أجبرت الأمّ على إرضاعه بأجرة المثل.
قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا ما آتاها سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا (7)}
قدّر الله الرزق: ضيّقه، ولم يبسطه.
دلت الآية على أنّ نفقة الزوجات والأقارب متفاوتة بحسب اليسار والإعسار.
ولم تقدّر الآية في النفقة شيئا معينا، لا كيلا ولا وزنا، ولا نوعا من الطعام، بل أحالت ذلك على العادة ومتعارف الناس في نفقاتهم، فدلّ ذلك على أنّ النفقة ليست مقدرة شرعا، وإنما تتقدّر بالاجتهاد على مجرى العادة بحسب حال المنفق وكفاية المنفق عليه.
وأيد ذلك ما أثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه ردّ الأزواج في النفقة إلى المعروف، وهو ما جرى عليه الناس في عرفهم.
ففي (صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «و اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف».
وفي (الصحيحين) أنّ هند امرأة أبي سفيان قالت له: إنّ أبا سفيان رجل شحيح ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم.
فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة المرأة مثل نفقة الخادم، وسوّى بينهما في عدم التقدير، وردهما إلى المعروف،
فقال في الزوجات: «و لهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف».
وقال في الخادم: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف» ولا ريب أنّ نفقة الخادم غير مقدرة، ولم يقل أحد بتقديرها، فكذلك نفقة الزوجة.
ولم يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة، لا بمدّ ولا برطل، بل المحفوظ عنهم والذي اتصل به العمل في كل عصر ومصر أنّهم كانوا ينفقون على أهليهم الخبز والإدام من غير تقدير ولا تمليك.
وصحّ عن ابن عباس في قوله تعالى: {مِنْ أوْسطِ ما تُطْعِمُون أهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] الخبز والزيت. وعن عمر: الخبز والسمن، والخبز والتمر، ومن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم، ومثل هذا مرويّ عن عليّ وابن مسعود وابن عمر وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك من الصحابة رضوان الله عليهم، وروي مثله عن كثير من التابعين.
وبعدم تقدير النفقة قال الجمهور من فقهاء الأمصار.
وخالف الشافعي وأبو يعلى فقدّرا نفقة الأزواج، إلا أنّ أبا يعلى قدّرها بالخبز، فجعل الواجب رطلين من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر، اعتبارا بالكفّارات، فإنّها لا تختلف قلة وكثرة باختلاف اليسار والإعسار، وإنما تختلف جودة ورداءة، لأنّ الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول، وما تقوم به البنية، وإنما يختلفان في جودته، فكذلك النفقة الواجبة.
وأما الشافعي فإنّه قدرها بالحبّ، فجعل على الفقير مدا، وعلى الموسر مدّين، وعلى المتوسط مدّا ونصفا، قال أصحاب الشافعي: نفقة الزوجات متفاوتة ومقدرة بالمد، ومعينة الجنس وهو الحبّ، فهذه ثلاث دعاوى:
أما أصل التفاوت فدليله قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله}.
وأما التقدير بالأمداد وتعيين الحب: فبالقياس على الكفارة، بجامع أنّ كلّا مال وجب بالشرع، ويستقر في الذمة، وأكثر ما وجب في الكفارات لكل مسكين مدان، مثل كفارة الحلق في النسك.
وأقل ما وجب له مد في كفارة اليمين ونحوه، والمد يكتفي به الزهيد، وينتفع به الرغيب، فلزم الموسر من الأزواج الأكثر، والمعسر منهم الأقل، والمتوسط ما بينهما.
وأيضا فإنّ النفقة عليهنّ في مقابلة التمتع بهنّ، وشرف القوامة عليهنّ، فاقتضى ذلك تقديرها كما يقدر كل ذي مقابل، وإنما لم تعتبر الكفاية كنفقة القريب لأنّها تجب للمريضة والشبعانة.
وليس في الآية الكريمة أكثر من الدلالة على أنها متفاوتة، وما اقتضاه حديث هند من تقديرها بالكفاية يجاب عنه بأنّه لم يقدّرها بالكفاية فقط، بل بها بحسب المعروف، وما ذكر من توزيع الأمداد بحسب اليسار والإعسار هو المعروف المستقر في العقول، ولو فتح للنساء باب الكفاية من غير تقدير لوقع التنازع لا إلى غاية، فتعيّن ذلك التقدير اللائق بالعرف.
قالوا: وقد روي التقدير في الكفارات عن الصحابة، فعن عمر في كفارة اليمين: لكل مسكين صاع من تمر أو شعير، أو نصف صاع من بر. ومثله عن عائشة.
وعن علي: نصف صاع لكل مسكين.
وعن زيد بن ثابت: يجزئ لكل مسكين مدّ حنطة، وروي مثله عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيّب، وابن جبير، ومجاهد، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة.
وقال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم يطعمون في كفارة اليمين مدّا بالمد الأول.
قالوا: وثبت في (الصحيحين) أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة في كفارة فدية الأذى: «أطعم ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين».
فدلّ ذلك على أنّ الإطعام في الكفارات مقدّر بالأمداد من الحبّ المقتات، فجعلنا ذلك أصلا، وعدّيناه إلى نفقة الزوجات لما تقدم.
ومعلوم أنّ الشافعية لم يقولوا بتقدير نفقة الزوجة إلا عند تنازع الزوجين، أمّا إذا تراضيا على أن تأكل من بيته، فأكلت قدر كفايتها، كان ذلك إنفاقا عليها، وليس لها أن تطالبه بنفقة عن المدة التي أكلتها عنده، سواء أأكلت معه أم وحدها، أم أضافها شخص إكراما له، كل ذلك يعتبر إنفاقا عليها، ويسقط نفقتها، لإطباق الناس عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده، ولم ينقل خلافه.
واختار جمع من أصحاب الشافعي أنّ نفقة الزوجات معتبرة بالكفاية لا بالأمداد، لقوة الدليل على ذلك، حتى قال الأذرعي: لا أعرف لإمامنا رضي الله عنه سلفا في التقدير بالأمداد، ولولا الأدب لقلت: الصواب أنها بالمعروف تأسيا واتباعا اه.
والمأمور بالإنفاق في قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ} إلخ الآباء الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى: {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ} ومن ثمّ كانت الآية أصلا في وجوب النفقة للولد على الأب دون الأمّ.
ودلّ قوله تعالى: {لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا ما آتاها} على أنّه لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة، لأنّه قد تضمّن أنه إذا لم يقدر على النفقة لم يكلفه الله الإنفاق في هذه الحال، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة، لأنّ فيه إيجاب التفريق لشيء لم يجب عليه، وكذلك قوله تعالى: {سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} يدلّ على أنه لا يفرّق بينهما من أجل عجزه عن النفقة، لأنّ العسر يرجى له اليسر، كما قال الله تعالى: {وإِنْ كان ذُو عُسْرةٍ فنظِرةٌ إِلى ميْسرةٍ} [البقرة: 280] وبهذا قال أهل الظاهر، وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وأحد قولي الشافعي رواية عن أحمد رحمهم الله.
وعلى هذا لا يلزمها تمكينه من الاستمتاع، لأنّه لم يسلم إليها عوضه، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه.
وعلى الزوج تخلية سبيلها، لتكتسب، وتحصل ما تنفقه على نفسها، لأنّ في حبسها بغير نفقة إضرارا بها.
والقول بالفسخ مذهب مالك، وأظهر قولي الشافعي، ورواية عن أحمد رحمهم الله، وحجتهم في ذلك خبر الدار قطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته يفرّق بينهما. قالوا: وقضى به عمر رضي الله عنه، ولم يخالفه أحد من الصحابة، وقال ابن المسيّب: إنّه من السنة.
قالوا: وقد شرع الفسخ بالعنة لإزالة الضرر، والضرر الذي يلحقها بعدم النفقة أشدّ من ضررها بالعنة، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة.
وفي تخلية سبيلها للكسب تشويش على الحياة الزوجية، وإخلال بالسكن الذي هو ثمرة الزواج، وما بقاء الزوجية بعد أن خلينا سبيلها، ورفعنا يد الزوج عنها، ولم نلزمها تمكينه من استمتاع بها؟
وقد تناظر في ذلك مالك وغيره فقال مالك: أدركت الناس يقولون: إذا لم ينفق الرجل على امرأته يفرّق بينهما.
فقيل له: قد كانت الصحابة رضي الله عنهم يعسرون ويحتاجون.
فقال مالك: ليس الناس اليوم كذلك، إنما تزوجته رجاء اه.
ومعنى كلامه إنّ نساء الصحابة رضي الله عنهم كنّ يردن الدار الآخرة وما عند الله، ولم يكن مرادهنّ الدنيا، فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن، لأن أزواجهنّ كانوا كذلك، وأما النساء اليوم، فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا، فصار هذا المعروف كالمشروط في العقد، وكان عرف الصحابة رضي الله عنهم كذلك كالمشروط في العقد، والشرط العرفي في أصل مذهبه كاللفظي.
وفي المسألة مذهبان آخران:
أحدهما: أنه إذا أعسر بنفقتها حبس حتى يجد ما ينفقه، وهذا مذهب حكاه الناس عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مذهب غير معقول، لأنّه إذا حبس فمن أين يجد النفقة؟ ولعلّ العنبري من القائلين بالتفريق للإعسار، وأنه يريد أنّ الحاكم إذا أمره بالطلاق فامتنع حبسه حتى يطلّق، أو يظهر له مال، وإلا فالكلام على ظاهره بيّن البطلان.
والثاني: أنه لا فسخ، وعليها نفقة نفسها إن كانت غنية، وإن عجز الزوج عن نفقة نفسه أيضا كلّفت المرأة الإنفاق عليه، وهو مذهب ابن حزم.
قال في (المحلى): فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلّفت النفقة عليه، لا ترجع بشيء من ذلك إن أيسر. وهذا المذهب مع بطلانه ومخالفته قواعد الشرع وعمل الناس أقرب إلى العقل من مذهب العنبري والله الموفق.
ودلّت الآية أيضا على أنّه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة والصدقة، وفي الحديث: «إنّ المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا، إذا هو وسع عليه وسع، وإذا هو قتر عليه قتر». اهـ.